سورة الزخرف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين: أحدهما: أنه لما تقدم طعن قريش على الرسول، واختيارهم أن ينزل القرآن على رجل من القريتين عظيم، أي في الجاه والمال؛ وذكر أن مثل ذلك سبقهم إليه فرعون في قوله: {أليس لي ملك مصر}؟ إلى آخر الآية، أتبعه بالملك والمال، ففرعون قدوتهم في ذلك، ومع ذلك، فصار فرعون مقهوراً مع موسى منتقماً منه، فكذلك قريش. والوجه الثاني: أنه لما قال: {واسأل من أرسلنا} الآية، ذكر وقته موسى وعيسى، وهما أكبر إتباعاً ممن سبقهم من الأنبياء، وكل جاء بالدعاء إلى الله وإفراده بالعبادة، فلم يكن فيما جاء أبداً إباحة اتخاذ آلهة من دون الله، كما اتخذت قريش، فناسب ذكر قصتهما للآية التي قبلها. وآيات موسى هي المعجزات التي أتى بها. وخص الملائكة بالذكر، وهم الأشراف لأن غيرهم من الناس تبع لهم.
{فلما جاءهم بآياتنا}، قبله كلام محذوف تقديره: فطالبوه بما يدل على صحة دعواه الرسالة من الله. {فلما جاءهم بآياتنا}، وهي انقلاب العصا ثعباناً وعودها عصاً، وإخراج اليد البيضاء نيرة، وعودها إلى لونها الأول، {إذا هم منها يضحكون}، أي فاجأهم الضحك بحيث لم يفكروا ولم يتأملوا، بل بنفس ما رأوا ذلك ضحكوا سخرية واستهزاء، كما كانت قريش تضحك. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدر، وهو عامل النصب في محلها، كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤا وقت ضحكهم. انتهى. ولا نعلم نحوياً ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل، من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ، بل المذاهب فيها ثلاثة: مذهب أنها حرف، فلا تحتاج إلى عامل، ومذهب أنها ظرف مكان، فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملاً فيها نحو: خرجت فإذا زيد قائم، فقائم ناصب لإذا، كأن التقدير: خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم؛ ومذهب أنها ظرف زمان، والعامل فيه الخبر أيضاً، كأنه قال: ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم، وإن لم يذكر بعد الاسم خبر، أو ذكر اسم منصوب على الحال، كانت إذا خبراً للمبتدأ. فإن كان المبتدأ جثة، وقلنا إذا ظرف مكان، كان الأمر واضحاً؛ وإن قلنا ظرف زمان، كان الكلام على حذف، أي ففي الزمان حضور زيد. وما ادعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة، لم ينطق به ولا في موضع واحد. ثم المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق، بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا. تقول: خرجت فإذا الأسد، والمعنى: ففاجأني الأسد، وليس المعنى: ففاجأت الأسد.
{وما نريهم من آية إلا هي أكر من أختها}، قال الزمخشري: فإن قلت: إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع، فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات؟ قلت: أختها التي هي آية مثلها، وهذه صفة كل واحدة منهما، فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات. قلت: أختها التي هي آية مثلها على سبيل التفضيل والاستقراء، واحدة بعد واحدة، كما تقول: هو أفضل رجل رأيته، تريد تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قدرتهم رجلاً. فإن قلت: فهو كلام متناقض، لأن معناه: ما من آية من التسع إلا وهي أكبر من كل واحدة منها، فتكون كل واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة، قلت: الغرض بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتقارب منازلهم فيه التقارب اليسير، إن تختلف آراء الناس في تفضيلها فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك، فعلى هذا بنى الناس كلامهم فقالوا: رأيت رجالاً بعضهم أفضل من بعض، وربما اختلفت آراء الرجال الواحد فيها، فتارة يفضل هذا، وتارة يفضل ذاك، ومنه بيت الحماسة:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري
وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها ثم قالت: لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة، لا يدري أين طرفاها. انتهى، وهو كلام طويل، ملخصه: أن الوصف بالأكبرية مجاز، وأن ذلك بالنسبة إلى الناظرين فيها. وقال ابن عطية: عبارة عن شدة موقعها في نفوسهم بحدة أمرها وحدوثه، وذلك أن آية عرضها موسى، هي العصا واليد، وكانت أكبر آياته، ثم كل آية بعد ذلك كانت تقع فيعظم عندها مجيئها وتكبر، لأنهم كانوا نسوا التي قبلها، فهذا كما قال الشاعر:
على أنها تعفو الكلوم وإنما *** يوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
وذهب الطبري إلى أن الآيات هنا الحجج والبينات. انتهى. وقيل: كانت من كبار الآيات، وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها؛ فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة، أي من أختها السابقة عليها، ولا يبقى في الكلام تعارض، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى، لأنه لم يسبقها شيء، فتكون أكبر منه. وقيل: الأولى تقتضي علماً، والثانية تقتضي علماً منضماً إلى علم الأولى، فيزداد الرجوح. وكنى بأختها: مناسبتها، تقول: هذه الذرة أخت هذه، أي مناسبتها. {وأخذناهم بالعذاب}: {بالسنين ونقص من الثمرات} و{الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم} وذلك عقاب لهم، وآيات لموسى {لعلهم يرجعون} عن كفرهم. قال الزمخشري: لعلهم يرجعون، أراد أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان. فإن قلت: لو أراد رجوعهم لكان. قلت: إرادته فعل غيره، ليس إلا أن يأمره به ويطلب منه إيجاده، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد، والإداريين أن يوجد وبين أن لا يوجد على اختيار المكلف، وإنما لم يكن الرجوع، لأن الإرادة لم تكن قسراً ولم يختاروه.
انتهى، وهو على طريق الاعتزال. وقال ابن عطية: لعلهم، ترجّ بحسب معتقد البشر وظنهم.
{وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك}: أي في كشف العذاب. قال الجمهور: هو خطاب تعظيم، لأن السحر كان علم زمانهم، أو لأنهم استصحبوا له ما كانوا يدعون به أولاً، ويكون قولهم: {بما عهد عندك إننا لمهتدون}: إخبار مطابق مقصود، وقيل: بل خطاب استهزاء وانتقاص، ويكون قولهم: {بما عهد عندك}، أي على زعمك، وقوله: و{إننا لمهتدون}: إخبار مطابق على شرط دعائه، وكشف العذاب وعهد معزوم على نكثه. ألا ترى: {فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثرون}؟ وعلى القول الأول يكون قوله: {فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثرون} جارياً على أكثر عادة الناس، إذا مسه الضر تضرع ودعا، وإذا كشف عنه رجع إلى عادته الأولى، كقوله: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} ثم إذا كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. وقوله: {بما عهد عندك}، محتمل أن يكون من أن دعوتك مستجابة، وفي الكلام حذف، أي فدعا موسى، فكشف {فلما كشفنا}. وقرأ أبو حيوة: ينكثون، بكسر الكاف.
{ونادى فرعون في قومه}: جعل القوم محلاً للنداء، والظاهر أنه نادى عظماء القبط في محله الذي هو وهم يجتمعون فيه، فرفع صوته فيما بينهم لتنتشر مقالته في جميع القبط. ويجوز أن يكون أمر بالنداء، فأسند إليه. وسبب ندائه ذلك، أنه لما رأى إجابة الله دعوة موسى ورفع العذاب، خاف ميل القوم إليه، فنادى: {قال يا قوم أليس لي ملك مصر}، أراد أن يبين فضله على موسى بملك مصر، وهي من إسكندرية إلى أسوان. {وهذه الأنهار}: أي الخلجان التي تجري من النيل، وأعظمها: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس. والواو في {وهذه الأنهار} واو الحال، وتجري خبر. وهذه والأنهار صفة، أو عطف بيان. وجوز أن تكون الواو عاطفة على ملك مصر، وتجري حال. من تحتي: أي من تحت قهري وملكي. وقال قتادة: كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره. وقيل: كان له سرير عظيم، وقطع من نيل مصر قطعة قسمها أنهاراً تجري من تحت ذلك السرير. وأبعد الضحاك في تفسيره الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة، يسيرون تحت لوائه. ومن فسرها بالأموال، يعرفها من تحت يده. ومن فسرها بالخيل فقيل: كما سمى الفرس بحراً يسمي نهراً. وهذه الأقوال الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية.
{أفلا تبصرون} عظمتي وقدرتي وعجز موسى؟ وقرأ مهدي بن الصفير: يبصرون، بياء الغيبة؛ ذكره في الكامل للهذلي، والسباعي، عن يعقوب، ذكره ابن خالويه.
قال الزمخشري: وليت شعري كيف ارتقت إلى دعوى الربوبية همة من تعاظم بملك مصر؟ وعجب الناس من مدى عظمته، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها، لئلا تخفى تلك الأبهة والجلالة على صغير ولا كبير حتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته. وكسر نون {أفلا تبصرون}، عيسى. وعن الرشيد، أنه لما قرأها قال: لأولينها أحسن عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها، فلما شارفها ووقع عليها قال: أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: {أليس لي ملك مصر}؟ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها، فثنى عنانه. {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين}: الظاهر أنها أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، أي بل أنا خير. وهو إذا استفهم أهو خير ممن هو ضعيف؟ لا يكاد يفصح عن مقصوده إذا تكلم، وهو الملك المتحكم فيهم، قالوا له: بلا شك أنت خير. وقال السدي وأبو عبيدة: أم بمعنى بل، فيكون انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير ممن ذكر، كقول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أم أنت في العين أملح
وقال سيبويه: أم هذه المعادلة: أي أم يبصرون الأمر الذي هو حقيقي أن يبصر عنده، وهو أنه خير من موسى. وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال: أم هذه متصلة، لأن المعنى: أفلا تبصرون؟ أم تبصرون؟ إلا أنه وضع قوله: {أنا خير} موضع {تبصرون}، لأنهم إذا قالوا: أنت خير، فهم عنده بصراء، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب. انتهى. وهذا القول متكلف جداً، إذ المعادل إنما يكون مقابلاً للسابق، وإن كان السابق جملة فعلية، كان المعادل جملة فعلية، أو جملة اسمية، يتقدر منها فعلية كقوله {أدعوتموهم أم أنتم صامتون} لأن معناه: أم صمتم؟ وهنا لا يتقدر منها جملة فعلية، لأن قوله: {أم أنا خير}؟ ليس مقابلاً لقوله: {أفلا تبصرون}؟ وإن كان السابق اسماً، كان المعادل اسماً، أو جملة فعلية يتقدر منها اسم، نحو قوله:
أمخدج اليدين أم أتمت ***
فأتمت معادل للاسم، فالتقدير: أم متماً؟ وقيل: حذف المعادل بعد أم لدلالة المعنى عليه، إذ التقدير: تبصرون، فحذف تبصرون، وهذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا، نحو: أيقوم زيد أم لا؟ تقديره: أم لا يقوم؟ وأزيد عندك أم لا، أي أم لا هو عندك. فأما حذفه دون لا، فليس من كلامهم. وقد جاء حذف أم والمعادل، وهو قليل. قال الشاعر:
دعاني إليها القلب إني لأمرها *** سميع فما أدري أرشد طلابها
يريد أم غيّ. وحكى الفراء أنه قرأ: أما أنا خير، دخلت الهمزة على ما النافية فأفادت التقدير. {ولا يكاد يبين}: الجمهور، أنه كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة. ومن ذهب إلى أن الله كان أجابه في سؤاله: {واحلل عقدة من لساني} فلم يبق لها أثر جعل انتفاء الإبانة بأنه لا يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعي، لأنه لا قدرة له على إيضاح المعنى لأجل كلامه. وقيل: عابه بما كان عليه موسى من الخسة أيام كان عند فرعون، فنسب إلى ما عهده مبالغة في التعيير. وقول فرعون: {ولا يكاد يبين}، كذب بحت. ألا ترى إلى مناظرته له وردّه عليه وإفحامه بالحجة؟ والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، كلهم بلغاء. وقرأ الباقر: يبين، بفتح الياء، من بان إذا ظهر.
{فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب}، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلاً، سوروه سوارين وطوقوه بطوق من ذهب، علامة لسودده. قال فرعون: هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقاً؟ وكان ذلك دليلاً على إلقاء مقاليد الملك إليه، لما وصف نفسه بالعزة والملك، ووازن بينه وبين موسى عليه السلام، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد. فاعترض فقال: إن كان صادقاً، فهلا ملكه ربه وسوره وجعل الملائكة أنصاره؟ وقرأ الضحاك: {فلولا ألقي} مبنياً للفاعل، أي الله؛ أساورة نصباً؛ والجمهور: أساورة رفعاً، وأبي وعبد الله: أساوير، والمفرد إسوار بمعنى سوار، والهاء عوض من الياء، كهي في زنادقة، هي عوض من ياء زناديق المقابلة لياء زنديق، وهذه مقابلة لألف أسوار. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والأعرج، ومجاهد، وأبو حيوة، وحفص: أسورة، جمع سوار، نحو: خمار وأخمرة. وقرأ الأعمش: أساور. ورويت عن أبي، وعن أبي عمرو، {أو جاء معه الملائكة مقترنين}: أي يحمونه ويقيمون حجته. قال ابن عباس: يعينونه على من خالفه. وقال السدي: يقارن بعضهم بعضاً. وقال مجاهد: يمشون معه. وقال قتادة: متتابعين.
{فاستخف قومه}: أي استجهلهم لخفة أحلامهم، قاله ابن الاعرابي. وقال غيره: حملهم على أن يخفوا لما يريد منهم، فأجابوه لفسقهم. {فلما آسفونا}: منقول بالهمزة من أسف، إذا غضب؛ والمعنى: فلما عملوا الأعمال الخبيثة الموجبة لأن لا يحلم عنهم. وعن ابن عباس: أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل. وعنه أيضاً: أغضبونا. وعن علي: أسخطونا. وقيل: خالفوا. وقال القشيري وغيره: الغضب من الله، إما إرادة العقوبة، فهو من صفات الذات؛ أو العقوبة، فيكون من صفات الفعل. وقرأ الجمهور: سلفاً. قال ابن عباس، وزيد بن أسلم، وقتادة: أي متقدمين إلى النار، وهو مصدر سلف يسلف سلفاً، وسلف الرجل آباؤه المتقدمون، والجمع أسلاف وسلاف. وقيل هو جمع سالف، كحارس وحرس، وحقيقته أنه اسم جمع، لأن فعلا ليس من أبنية الجموع المكسرة. وقال طفيل يرثي قومه:
مضوا سلفاً قصد السبيل عليهم *** صروف المنايا والرجال تقلب
قال الفراء والزجاج: سلفاً ليتعظ بهم الكفار المعاصرون للرسول. وقرأ أبو عبد الله وأصحابه، وسعيد بن عياض، والأعمش، وطلحة، والأعرج، وحمزة، والكسائي: وسلفاً بضم السين واللام، جمع سليف، وهو الفريق. سمع القاسم بن معن العرب تقول: مضى سليف من الناس. وقرأ علي، ومجاهد، والأعرج أيضاً: وسلفاً، بضم السين واللام، جمع سلفة، وهي الأمة والقطيعة. والسلف في غير هذا: ولد القبح، والجمع سلفان. {ومثلا للآخرين}: أي حديثاً عجيب الشأن سائراً مسير المثل، يحدث به الآخرون من الكفار، يقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون.


لما ذكر تعالى طرفاً من قصة موسى عليه السلام، ذكر طرفاً من قصة عيسى عليه السلام. وعن ابن عباس وغيره: لما نزل {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} ونزل كيف خلق من غير فحل، قالت قريش: ما أراد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده، كما عبدت النصارى عيسى، فهذا كان صدودهم من ضربه مثلاً. وقيل: ضرب المثل بعيسى، هو ما جرى بين الزبعري وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في القصة المحكية في قوله: {إنكم وما تعبدون} وقد ذكرت في سورة الأنبياء في آخرها أن ابن الزبعري قال: فإذا كان هؤلاء أي عيسى وأمه وعزير في النار، فقد وصفنا أن نكون نحن وآلهتنا معهم. وقيل: المثل هو أن الكفار لما سمعوا أن النصارى تعبد عيسى قالوا: آلهتنا خير من عيسى، قال ذلك منهم من كان يعبد الملائكة. وضرب مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون الفاعل ابن الزبعري، إن صحت قصته، وأن يكون الكفار. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، والنخعي، وأبو رجاء، وابن وثاب، وعامر، ونافع، والكسائي: يصدون، بضم الصاد، أي يعرضون عن الحق من أجل ضرب المثل. وقرأ ابن عباس، وابن جبير، والحسن، وعكرمة، وباقي السبعة: بكسرها، أي يصيحون ويرتفع لهم حمية بضرب المثل. وروي: ضم الصاد، عن علي، وأنكرها ابن عباس، ولا يكون إنكاره إلا قبل بلوغه تواترها. وقرأ الكسائي، والفراء: هما لغتان بمعنى: مثل يعرشون ويعرشون.
{وقالوا أآلهتنا خير أم هو}: خفف الكوفيون الهمزتين، وسهل باقي السبعة الثانية بين بين. وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر: بهمزة واحدة على مثال الخبر، فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام محذوفة لدلالة أم عليها، واحتمل أن يكون خبراً محضاً. حكوا أن آلهتهم خير، ثم عنّ لهم أن يستفهموا، على سبيل التنزل من الخبر إلى الاستفهام المقصود به الإفحام، وهذا الاستفهام يتضمن أن آلهتهم خير من عيسى. {ما ضربوه لك إلاّ جدلاً}: أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا لأجل الجدل والغلبة والمغالطة، لا لتمييز الحق واتباعه. وانتصب جدلاً على أنه مفعول من أجله، وقيل: مصدر في موضع الحال. وقرأ ابن مقسم: إلا جدالاً؛ بكسر الجيم. وألف خصمون: شديدو الخصومة واللجاج؛ وفعل من أبنية المبالغة نحو: هدى. والظاهر أن الضمير في أم هو لعيسى، لتتناسق الضمائر في قوله: {إن هو إلاّ عبد}. وقال قتادة: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم. {أنعمنا عليه} بالنبوة وشرفناه بالرسالة. {وجعلناه مثلاً} أي خبرة عجيبة، كالمثل {لبني إسرائيل}، إذ خلق من غير أب، وجعل له من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والأسقام كلها، ما لم يجعل لغيره في زمانه. وقيل: المنعم عليه هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة من الأرض}، قال بعض النحويين: من تكون للبدل، أي لجعلنا بدلكم ملائكة، وجعل من ذلكم قوله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} أي بدل الآخرة، وقول الشاعر:
أخذوا المخاض من الفصيل غلية *** ظلماً ويكتب للأمير أفالا
أي بدل الفصيل، وأصحابنا لا يثبتون لمن معنى البدلية، ويتأولون ما ورد ما يوهم ذلك. قال ابن عطية: لجعلنا بدلاً منكم. وقال الزمخشري: ولو نشاء، لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر، لجعلنا منكم: لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض، كما يخلفكم أولادكم؛ كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام، وذات القديم متعالية عن ذلك. انتهى، وهو تخريج حسن. ونحو من هذا التخريج قول من قال: لجعلنا من الأنس ملائكة، وإن لم تجر العادة بذلك. والجواهر جنس واحد، والاختلاف بالأوصاف. {يخلفون}، قال السدي: يكونون خلفاءكم. وقال قتادة: يخلف بعضهم بعضاً. وقال مجاهد: في عمارة الأرض. وقيل: في الرسالة بدلاً من رسلكم. والظاهر أن الضمير في: {وإنه لعلم للساعة} يعود على عيسى، إذ الظاهر في الضمائر السابقة أنها عائدة عليه. وقال ابن عباس: ومجاهد، وقتادة، والحسن، والسدي، والضحاك، وابن زيد: أي وإن خروجه لعلم للساعة يدل على قرب قيامها، إذ خروجه شرط من أشراطها، وهو نزوله من السماء في آخر الزمان. وقال الحسن، وقتادة أيضاً، وابن جبير: يعود على القرآن على معنى أن يدل إنزاله على قرب الساعة، أو أنه به تعلم الساعة وأهوالها. وقالت فرقة: يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو آخر الأنبياء، تميزت الساعة به نوعاً وقدراً من التمييز، ونفى التحديد التام الذي انفرد الله تعالى بعلمه. وقرأ الجمهور: لعلم، مصدر علم. قال الزمخشري: أي شرط من أشراطها تعلم به، فسمى العلم شرطاً لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس، وأبو هريرة، وأبو مالك الغفاري، وزيد بن علي، وقتادة، ومجاهد، والضحاك، ومالك بن دينار، والأعمش، والكلبي. قال ابن عطية، وأبو نصرة: لعلم، بفتح العين واللام، أي لعلامة. وقرأ عكرمة به. قال ابن خالويه، وأبو نصرة: للعلم، معرفاً بفتحتين.
{فلا تمترن بها}: أي لا تشكون فيها، {واتبعون هذا}: أي هداي أو شرعي. وقيل: أي قل لهم يا محمد: واتبعوني هذا، أي الذي أدعوكم له، أو هذا القرآن؛ كان الضمير في قال القرآن، ثم حذرهم من إغواء الشيطان، ونبه على عداوته {بالبينات}: أي المعجزات، أو بآيات الإنجيل الواضحات. {بالحكمة}: أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع. قال السدي: بالحكمة: النبوة. وقال أيضاً: قضايا يحكم بها العقل. وذكر القشيري والماوردي: الإنجيل. وقال الضحاك: الموعظة. {ولأبين لكم بعض الذين فيه تختلفون فيه}: وهو أمر الديانات، لأن اختلافهم يكون فيها، وفي غيرها من الأمور التي لا تتعلق بالديانات.
فأمور الديانات بعض ما يختلفون فيه، وبين لهم في غيره ما احتاجوا إليه. وقيل: بعض ما يختلفون فيه من أحكام التوراة. وقال أبو عبيدة: بعض بمعنى كل، ورده الناس عليه. وقال مقاتل: هو كقوله: {ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم} أي في الإنجيل: لحم الإبل، والشحم من كل حيوان، وصيد السمك يوم السبت. وقال مجاهد: بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة. وقيل: مما سألتم من أحكام التوراة. وقال قتادة: ولأبين لكم اختلاف القرون الذين تحزبوا في أمر عيسى في قوله: {قد جئتكم بالحكمة}، وهم قومه المبعوث إليهم، أي من تلقائهم ومن أنفسهم، بان شرهم ولم يدخل عليهم الاختلاف من غيرهم. وتقدم الخلاف في اختلافهم في سورة مريم في قوله: {فاخلتف الأحزاب من بينهم} {هل ينظرون}: الضمير لقريش، و{وأن تأتيهم}: بدل من الساعة، أي إتيانها إياهم. {الأخلاء يومئذ}: قيل نزلت في أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط. والتنوين في يومئذ عوض عن الجملة المحذوفة، أي يوم إذ تأتيهم الساعة، ويومئذ منصوب بعد، والمعنى: أنه ينقطع كل خلة وتنقلب الأخلة المتقين، فإنها لا تزداد إلا قوّة. وقيل: {إلا المتقين}: إلا المجتنبين أخلاء السوء، وذلك أن أخلاء السوء كل منهم يرى أن الضرر دخل عليه من خليله، كما أن المتقين يرى كل منهم النفع دخل عليه من خليله. وقرئ: يا عبادي، بالياء، وهو الأصل، ويا عباد بحذفها، وهو الأكثر، وكلاهما في السبعة. وعن المعتمر بن سليمان: سمع أن الناس حين يبعثون، ليس منهم أحد إلا يفزغ فينادي منادٍ {يا عبادي لا خوف عليكم}، فيرجوها الناس كلهم، فيتبعها {الذين آمنوا} الآية، قال: فييأس منها الكفار. وقرأ الجمهور: لا خوف، مرفوع منون؛ وابن محيصن: بالرفع من غير تنوين؛ والحسن، والزهري، وابن أبي إسحاق، وعيسى، وابن يعمر: بفتحها من غير تنوين، و{الذين آمنوا} صفة ليا عبادي.
{تحبرون}: تسرون سروراً يظهر حباره، أي أثره على وجوهكم، لقوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} وقال الزجاج: يكرمون إكراماً يبالغ فيه، والحبرة: المبالغة فيما وصف بجميل وأمال أبو الحرث عن الكسائي. {بصحاف}: ذكره ابن خالويه. والضمير في: {فيها}، عائد على الجنة. {ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين}: هذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهاة في القلوب، أو مستلذة في العيون. وقرأ أبو جعفر، وشيبة، ونافع، وابن عباس، وحفص: ما تشتهيه بالضمير العائد على ما، والجمهور وباقي السبعة: بحذف الهاء. وفي مصحف عبد الله: ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين، بالهاء فيهما. و{تلك الجنة}: مبتدأ وخبر. و{التي أورثتموها}: صفة، أو {الجنة} صفة، و{التي أورثتموها}، و{بما كنتم تعملون} الخبر، وما قبله صفتان. فإذا كان بما الخبر تعلق بمحذوف، وعلى القولين الأولين يتعلق بأورثتموها، وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. ولما ذكر ما يتضمن الأكل والشرب، ذكر الفاكهة. {منها تأكلون}: من للتبعيض، أي لا تأكلون إلا بعضها، وما يخلف المأكول باق في الشجر، كما جاء في الحديث.


لما ذكر تعالى حال أهل الجنة، وما يقال لهم من لذائذ البشارة، أعقب ذلك بذكر حال الكفرة، وما يجاوبون به عند سؤالهم. وقرأ عبد الله: وهم فيها، أي في جهنم؛ والجمهور: وهم فيه أي في العذاب. وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من نار، ثم يردم عليه، فيبقى فيه خالداً لا يرى ولا يرى. {لا يفتر عنهم}: أي لا يخفف ولا ينقص، من قولهم: فترت عنه الحمى، إذا سكنت قليلاً ونقص حرها. والمبلس: الساكت اليائس من الخير. {وما ظلمناهم}: أي ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه. {ولكن كانوا هم الظالمين}: أي الواضعين الكفر موضع الإيمان، فظلموا بذلك أنفسهم. وقرأ الجمهور: والظالمين، على أن هم فصل. وقرأ عبد الله، وأبو زيد النحويان: الظالمون بالرفع، على أنهم خبرهم، وهم مبتدأ. وذكر أبو عمرو الجرمي: أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ، ويرفعون ما بعده على الخبر. وقال أبو زيد: سمعتهم يقرأون: {تجدوه عند الله هو خير وأعظم أجراً} يعني: يرفع خير وأعظم. وقال قيس بن دريج:
نحن إلى ليلى وأنت تركنها *** وكنت عليها بالملا أنت أقدر
قال سيبويه: إن رؤبة كان يقول: أظن زيداً هو خير منك، يعني بالرفع. {ونادوا يا مالك}: تقدم أنهم مبلسون، أي ساكتون، وهذه أحوال لهم في أزمان متطاولة، فلا تعارض بين سكوتهم وندائهم. وقرأ الجمهور: يا مالك. وقرأ عبد الله، وعليّ، وابن وثاب، والأعمش: يا مال، بالترخيم، على لغة من ينتظر الحرف. وقرأ أبو السرار الغنوي: يا مال، بالبناء على الضم، جعل اسماً على حياله. واللام في: {ليقض} لام الطلب والرغبة. والمعنى: يمتنا مرة حتى لا يتكرر عذابنا، كقوله: {فوكزه موسى فقضى عليه} أي أماته. {قال}: أي مالك، {إنكم ماكثون}: أي مقيمون في النار لا تبرحون. وقال ابن عباس: يجيبهم بعد مضي ألف سنة، وقال نوف: بعد مائة، وقيل: ثمانين، وقال عبد الله بن عمرو: أربعين. {لقد جئناكم بالحق}: يظهر أنه من كلام الله تعالى. وقيل: من كلام بعض الملائكة، كما يقول أحد خدم الرئيس: أعلمناكم وفعلنا بكم. قيل: ويحتمل أن يكون {قد جئناكم} من قول الله لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك، وفي هذا توعد وتخويف بمعنى: انظروا كيف يكون حالكم. {أم أبرموا}: والضمير لقريش، أي بل أحكموا أمراً من كيدهم للرسول ومكرهم، {فإنا مبرمون} كيدنا، كما أبرموا كيدهم، كقوله: {أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون} وكانوا يتناجون ويتسارعون في أمر الرسول، فقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرّهم}، وهو ما يحدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. {ونجواهم}: وهي ما تكلموا به فيما بينهم. {بلى}: أي نسمعها، {رسلنا}، وهم الحفظة.
{قل إن كان للرحمن ولد}، كما تقولون، {فأنا أول} من يعبده على ذلك، ولكن ليس له شيء من ذلك. وأخذ الزمخشري هذا القول وحسنه بفصاحته فقال: إن كان للرحمن ولد، وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح يوردونه، وحجة واضحة يبذلونها، فأنا أول من يعظم ذلك الولد، وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه. وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد، وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالاً مثلها. فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة، وفي معنى نفيها على أبلغ الوجوه وأقواها. ثم قال الزمخشري: ونظيره أن يقول العدلي للمجبر. ثم ذكر كلاماً يستحق عليه التأديب، بل السيف، نزهت كتابي عن ذكره. ثم قال: وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقلة بالتوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن ولد، في زعمكم، فأنا أول العابدين، الموحدين لله، المكذبين قولهم بإضافة الولد إليه. وقيل: إن كان للرحمن ولد، فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد، إذ اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرأ بعضهم: عبدين، وقيل: هي إن النافية، أي ما كان للرحمن ولد، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد.
وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال: أن الملائكة بنات الله، فنزلت، فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني؟ فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك، ولكن قال: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له. انتهى. أما القول: إن كان لله ولد في زعمكم، فهو قول مجاهد، وأما القول: فأنا أول الآنفين، فهو قول جماعة، حكاه عنهم أبو حاتم ولم يسم أحداً منهم، ويدل عليه قراءة السلمي واليماني: العبدين، وقراءة ذكرها الخليل بن أحمد في كتابه العين: العبدين، بإسكان الباء، تخفيف العبدين بكسرها. وذكر صاحب اللوامح أنه جاء عن ابن عباس في معنى العابدين: أنه الآنفين انتهى. وقال ابن عرفة: يقال: عبد يعبد فهو عبد، وقلما يقال: عابد. والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ، ثم قال: كقول مجاهد. وقال الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** واعبد أن أهجوا كليباً بدارمي
أي: آنف وأستنكف. وقال آخر:
متى ما يشا ذو الود يصرم خليله *** ويعبد عليه لا محالة ظالما
وأما القول بأن إن نافية، فمروي عن ابن عباس، والحسن، والسدي، وقتادة، وابن زيد، وزهير بن محمد، وقال مكي: لا يجوز أن تكون إن بمعنى ما النافية، لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت، وهذا محال.
انتهى. ولا يلزم منه محال، لأن كان قد تستعمل فيما يدوم ولا يزول، كقولك: {وكان الله غفوراً رحيماً} أي لم يزل، فالمعنى: ما كان وما يكون. وقال أبو حاتم: العبد، بكسر الباء: الشديد الغضب. وقال أبو عبيدة: معناه أول الجاحدين. والعرب تقول: عبدني حقي، أي جحدني. وقرأ ولد بفتحتين. عبد الله، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش: بضم الواو وسكون اللام.
ثم قال: {سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون}: أي من نسبة الولد إليه، والمعنى: إزالة العلم يجب أن يكون واجب الوجود، وما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزي. والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه، فيتولد منه شخص مثله، ولا يكون إلا فيما هو قابل ذاته للتجزي، وهذا محال في حقه تعالى، فامتنع إثبات الولد. ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال: {فذرهم يخوضوا}، أي في باطلهم، {ويلعبوا}، أي في دنياهم. وظاهر هذين الأمرين مهادنة وترك، وذلك مما نسخ بآية السيف. وقرأ الجمهور: {حتى يلاقوا}، وأبو جعفر، وابن محيصن، وعبيد بن عقيل، عن أبي عمرو: يلقوا، مضارع لقي. {يومهم الذي يوعدون}: يوم القيامة. وقال عكرمة وغيره: يوم بدر، وأضاف اليوم إليهم، لأنه الذي فيه هلاكهم وعذابهم. وقرأ الجمهور: إله فيهما. وقرأ عمر. وعبد الله، وأبي، وعلي، والحكم بن أبي العالي، وبلال بن أبي بردة، وابن يعمر، وجابر، وابن زيد، وعمر بن عبد العزيز، وأبو الشيخ الهنائي، وحميد، وابن مقسم، وابن السميفع: الله فيهما. ومعنى إله: معبود به، يتعلق الجار والمجرور، والمعنى: أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض، والعائد على الموصول محذوف تقديره: هو إله، كما حذف في قولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً، وحسنه طوله بالعطف عليه، كما حسن في قائل لك شيئاً طوله بالمعول. ومن قرأ: الله، ضمنه أيضاً معنى المعبود، كما ضمن العلم في نحو قولهم: هو حاتم في طيئ، أي جواد في طيئ. ويجوز أن تكون الصلة الجار والمجرور. والمعنى: أنه فيهما بالإلهية والربوبية، إذ يستحيل حمله على الاستقرار. وفي قوله: {وفي الأرض}، نفى لآلهتهم التي كانت تعبد في الأرض.
{وعنده علم الساعة}: أي علم تعيين وقت قيامها، وهو الذي استأثر به تعالى. وقرأ الجمهور: يرجعون، بياء الغيبة؛ ونافع، وعاصم، والعدنيان: بتاء الخطاب، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعول. وقرئ: بفتح تاء الخطاب مبنياً للفاعل. وقرأ الجمهور: بياء الغيبة وشد الدال، وعنه بتاء الخطاب وشد الدال، والمعنى: ولا يملك آلهتهم التي يدعون الشفاعة عند الله. قال قتادة: استثنى ممن عبد من دون الله عيسى وعزيراً والملائكة، فإنهم يملكون شفاعة بأن يملكها الله إياهم، إذ هم ممن شهد بالحق، وهم يعلمونه في أحوالهم، فالاستثناء على هذا متصل.
وقال مجاهد وغيره: من المشفوع فيهم؟ كأنه قال: لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق، وهو يعلمه، أي بالتوحيد، قالوا: فالاستثناء على هذا منفصل، كأنه قال: لكن من شهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء. وهذا التقدير الذي قدروه يجوز أن يكون فيه الاستثناء متصلاً، لأنه يكون المستثنى منه محذوفاً، كأنه قال: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة في أحد، إلا فيمن شهد بالحق، فهو استثناء من المفعول المحذوف، كما قال الشاعر:
نجا سالم والنفس منه بشدقه *** ولم ينج إلا جفن سيف ومئزار
أي: ولم ينج إلا جفن سيف، فهو استثناء من المشفوع فيهم الجائز فيه الحذف، وهو متصل. فإن جعلته مستثنى من {الذين يدعون}، فيكون منفصلاً، والمعنى: ولا يملك آلهتهم، ويعني بهم الأصنام والأوثان، الشفاعة. كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله. ولكن {من شهد بالحق}، وهو توحيد الله، وهو يعلم ما شهد به، هو الذي يملك الشفاعة، وإن أدرجت الملائكة في {الذين يدعون}، كان استثناء متصلاً. وقرأ الجمهور: {فانى يؤفكون}، بياء الغيبة، مناسباً لقوله: {ولئن سألتهم}، أي كيف يصرفون عن عبادة من أقروا أنه موجد العالم. وعبد الوارث، عن أبي عمرو: بتاء الخطاب. وقرأ الجمهور: وقيله، بالنصب. فعن الأخفش: أنه معطوف على سرهم ونجواهم، وعنه أيضاً: على وقال قيله، وعن الزجاج، على محل الساعة في قوله: {وعنده علم الساعة}. وقيل: معطوف على مفعول يكتبون المحذوف، أي يكتبون أقوالهم وأفعالهم. وقيل: معطوف على مفعول يعلمون، أي يعلمون الحق. {وقيله يا رب}: وهو قول لا يكاد يعقل، وقيل: منصوب على إضمار فعل، أي ويعلم قيله. وقرأ السلمي، وابن وثاب، وعاصم، والأعمش، وحمزة، وقيله، بالخفض، وخرج على أنه عطف على الساعة، أو على أنها واو القسم، والجواب محذوف، أي: لينصرن، أو لأفعلن بهم ما أشاء. وقرأ الأعرج، وأبو قلابة، ومجاهد، والحسن، وقتادة، ومسلم بن جندب: وقيله بالرفع، وخرج على أنه معطوف على علم الساعة، على حذف مضاف، أي وعلم قيله حذف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وروي هذا عن الكسائي، وعلى الابتداء، وخبره: يا رب إلى لا يؤمنون، أو على أن الخبر محذوف تقديره مسموع، أو متقبل، فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بو قيله. وقرأ أبو قلابة: يا رب، بفتح الباء؛ أراد: يا ربا، كما تقول: يا غلام. ويتخرج على جواز الأخفش: يا قوم، بالفتح وحذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها. وقال الزمخشري: والذي قالوه يعني من العطف ليس بقوي في المعنى، مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطف عليه بما لا يحسن اعتراضاً، ومع تنافر النظم، وأقوى من ذلك. والوجه أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه، والرفع على قولهم: أيمن الله، وأمانة الله، ويمين الله، ولعمرك، ويكون قوله: {إن هؤلاء قوم لا يؤمنون}، جواب القسم، كأنه قال: وأقسم بقيله، أو وقيله يا رب قسمي.
{إن هؤلاء قوم لا يؤمنون}، وإقسام الله بقيله، رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه. انتهى، وهو مخالف لظاهر الكلام، إذ يظهر أن قوله: يا رب إلى لا يؤمنون، متعلق بقيله، ومن كلامه عليه السلام: وإذا كان أن هؤلاء جواب القسم، كان من إخبار الله عنهم وكلامه، والضمير في وقيله للرسول، وهو المخاطب بقول {فاصفح عنهم}، أي أعرض عنهم وتاركهم، {وقل سلام}، أي الأمر سلام، فسوف يعلمون وعيد لهم وتهديد وموادعة، وهي منسوخة بآية السيف. وقرأ الجمهور: يعلمون، بياء الغيبة، كما في: فاصفح عنهم. وقرأ أبو جعفر، والحسن، والأعرج، ونافع، وهشام: بتاء الخطاب. وقال السدي: وقل سلام، أي خيراً بدلاً من شرهم. وقال مقاتل: أورد عليهم معروفاً. وحكى الماوردي: قل ما تسلم به من شرهم.

1 | 2